لقد نجح سلفنا الصالح بهذا القرآن نجاحا مدهشا، مع قلة عددهم، وخشونة عيشهم، وندرة المصاحف بأيديهم، وقلة الحفاظ إذا ما قورنوا بأعدادهم اليوم، والسر في ذلك: أنهم توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته، أما غالب المسلمين اليوم ونسوا أو تناسوا أن بركة القرآن العظمى إنما هي في تدبر آياته وتفهمها والتأدب به[الزرقاني]
التدبر.. لماذا وكيف؟
صفة التدبر أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى استغفر، وإذا مر بآية رحمة سأل واستبشر، أو عذاب أشفق وتعوذ، أو تنزيه نزه وعظم، أو دعاء تضرع وطلب. [السيوطي]
{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم بتدبره. [ابن حزم] ج.تدبر
{قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها}، {فاعتبروا يا أولي الأبصار} هكذا وجب عليك أن تقرأ آية آية، اقرأ وتدبر ثم أبصر، عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل، فتكون له متدبرا. [د.فريد الأنصاري]
(1)
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم-. [ابن القيم]
(2)
من طرق التدبر: تدارس القرآن، والتدارس لا يكون إلا طرفين فأكثر، فينظرون في آية أو في سورة أو في موضوع، ويتبادلون الحديث، ويرجعون للكتب، ويسألون أهل العلم، بحثا عن النفع، بغير تغالب أو مماراة. [د.عويض العطوي]
(3)
من طرق التدبر: الاستدلال المركب من آيتين فأكثر، كهذا النموذج:في قوله تعالى: {يهدي إليه من ينيب} مع قوله: {واتبع سبيل من أناب إلي} مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم، وشدة إنابتهم، دليل على أن قولهم حجة، خصوصا الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين. [السعدي]
(4)
عن أبي حمزة رحمه الله قال: قلت لابن عباس رضي الله عنه: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن اقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها، أحب إلي أن أقرأها كما تقرأ. [رواه البيهقي]
(5)
من أول ما يعين على التدبر، أن يعلم القارئ أنه المقصود بالتلاوة، فإن من تلاوة القرآن حق تلاوته: التدبر، لأنه طريق الإيمان، ألم يقل الله تعالى:
{الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}(البقرة:121). [د.محمد السيد]
(6)
كرر الآية التي تجد قلبك قد انفتح لها، وخشع معها، فقد قام نبيك صلى الله عليه وسلم بآية واحدة حتى أصبح: {إن تعذبهم فإنهم عبادك... الآية}(المائدة:118).
وكان أحد العامة، يقرأ قوله تعالى: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض}؟(إبراهيم:10) فما زال يرددها كثيرا، وكلما قرأها قال: لا والله يا رب ما فيك شك! فبكى وأبكى من كان يسمعه.
(7)
على متدبر كتاب الله أن يبحث في معاني الكلمات الواردة فيه بحثا لغويا، وكيف استعملها العرب، وكيف استعملت وقت نزول القرآن، لا وفق ما تطورت إليه الكلمة بعد انقطاع الوحي، فإن ذلك من شأنه أن يساعد -بتوفيق الله- على فهم المعنى، وأن يكون تدبره أقرب إلى الصواب. [عبدالرحمن الميداني]
(
دقتك في الجواب على السؤال التالي له أثر بالغ في الانتفاع بهذا المفتاح من مفاتيح التدبر!
يقول ابن القيم:
"فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أهي أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم؟ فإن من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه"
(9)
من طرق التدبر أن تقرأ القرآن آية آية، ثم ترجع للآية كلمة كلمة، وما يشكل معناه من الألفاظ تبحث عنه في كتب التفاسير الموثوقة، أو كتب غريب القرآن لأنها أيسر، فتحلل معناها تحليلا لفظيا؛ لتفهم المعنى، ثم بعد ذلك تنظر في معاني الآية الكلية. [د.عبدالكريم الخضير]
(10)
من أراد حسن التدبر فليكن له عناية بأسباب النزول وبالسيرة والتاريخ، فإن فيها عيشا مع القرآن.
قال الحسن البصري: "والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيمن أنزلت وما يعني بها".
والسؤال: كم أعطينا القرآن من وقتنا لتحقيق هذه الغاية؟
(11)
التدبر مهارة، يمكن التدرب عليها إذا تخيلت نفسك طالبا والأستاذ يقول لك: استنبط من الآية عشر فوائد بدون الرجوع إلى أحد. [د.عبدالله السكاكر]
(12)
مما يعين على التدبر: أن يربط الإنسان الأحداث التي تمر به بكتاب الله.، واقرأها في ضوء الواقع، تجد لها معاني لم تنكشف لك وقتها.
إنها عظمة القرآن!
(13)
من طرق التدبر أن يجعل لنفسه في كل وقت آية يتأملها بخصوصها، ويمكن أن يعلق في ورقة ليراها طول اليوم، وبجانبها ورقة، فكلما طرأ له معنى كتبه فيها.
(14)
الوقوف على أقوال السلف بالذات في تفسير الآية، والتأمل في مضامينها -خاصة إذا تنوعت عباراتهم والمقصود واحد- مما يعين على التدبر، والتفكر في معان أكثر للآية.
مثال: تنوع عباراتهم في تفسير (الفتنة) في قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ...}(النور:63).
(15)
ومن أبلغ ما يعين على التدبر أن يعرض المؤمن نفسه على كتاب ربه، فهو يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه وهمته،
متى أكون من المتقين؟
متى أكون من الخاشعين؟
متى أكون من الصابرين؟
متى أزهد في الدنيا؟
متى أنهى نفسي عن الهوى؟ [الآجري]
(16)
من طرق التدبر: التفاعل مع الآيات بالسؤال والتعوذ والاستغفار ونحوه عند مناسبة ذلك، فهو دال على التفاعل الحي وأن القارئ حاضر القلب مع التلاوة، وهو من أظهر صفات التفاعل الدالة على التدبر، وقد كان هذا هو الهدي النبوي وهدي السلف الصالح. [د.محمد الربيعة]
(17)
من مفاتيح التدبر: إتقان الوقف والابتداء ..
لو قرأت قوله تعالى: {وهو الله في السموات} ثم وقفت, ثم استأنفت وقلت: {وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} فسيظهر من جلال الآية وعظمتها أنه سبحانه مع كونه في السموات، فإنه يعلم سركم وجهركم في الأرض, فليس علوه في السموات بمانع من علمه بسركم وجهركم في الأرض.
وكذلك: قوله تعالى: {وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب} هنا يحسن الوقف، ثم تبتدئ فتقول: {وما هو من الكتاب}؛ لأن قوله : {وما هو من الكتاب} رد لقوله: {لتحسبوه من الكتاب}.
ثم تقرأ: {ويقولون هو من عند الله} هنا يحسن الوقف أيضا, ثم تبتدئ فتقول: {وما هو من عند الله}. [ابن عثيمين]
****************
{لا تحرك به لسانك لتعجل به} إذا كان الله تعالى نهى تبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستعجال بقراءة القرآن مع وجود سبب معتبر، فماذا يقول من يهذه بلا فهم ولا تدبر، أو علة لها حظ من النظر؟ [أ.د.ناصر العمر]
"لو تدبر إنسان القرآن كان فيه ما يرد على كل مبتدع وبدعته". [أحمد بن حنبل]
من تدبر القرآن علم أن الصالحين لا يخافون من شيء أعظم من خوفهم من أمرين:
- الخوف من أعمالهم الصالحة أن لا تقبل: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}.
- الخوف من زيغ القلب بعد هدايته: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}. [صالح المغامسي]
يقول أحد المشايخ: ربيت نفسي -منذ زمن- إذا أردت الاستماع للقرآن أن لا أستمع له إلا في حال من الإنصات، والاستعداد النفسي، وبعد عن المشوشات، وتهيئة قلبي وكأن الله يخاطبني، فوجدت لهذا الاستعداد الأثر الطيب على وقع آيات القرآن في نفسي، وهذا ما أوصي به كل من يريد الانتفاع بالقرآن
{لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
"أسأل الله ان يرزقنا تدبر كتابه فيكون منهج حياتنا"
--